الفكر الإسلامي
محاوراتٌ
في الدِّين
الحلقة
(4)
بقلم : الإمام محمد قاسم النانوتوي المتوفى
1297هـ/1880م
رئيس الطائفة المؤسسة
لجامعة ديوبند
تعريب : الأستاذ محمد ساجد
القاسمي / أستاذ بالجامعة
محمد
ﷺ
نَبيٌّ لا ريب فيه :
تلك أخلاق محمد ﷺ ، أتَخَلَّقَ
بمثل هذه الأخلاق أدمُ عليه السلام أم إبراهيم عليه السلام أم موسى عليه السلام أم
عيسى عليه السلام؟ وإذا كان من رجاحة العقل وحسن الأخلاق ما قدَّمناه آنفًا ؛ وإذا
كان من زهده في الدنيا أنّه جَادَ بما ملكته يدُه ، وتخَشَّنَ في مأكله وملبسه
ومسكنه ، فهل من عاقلٍ يقول : إنَّ موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام من
الأنبياء ، وإنَّ محمدًا ﷺ ليس منهم .
فمحمدٌ ﷺ نبي لا ريب فيه عند أولي الأحلام والنهى .
محمّد ﷺ خاتم النبيين وسيدهم :
بعدما
لاحظنا الصفات العلمية التي يتمتع بها محمد ﷺ والتي تتجلى فيه جلاء النور في عين الشمس وجَبَ أن نُسَلِّمَ أنّه سيد
الأنبياء وأفضلهم وخاتمهم .
وبيان
هذا الإجمال أنَّ ما في العالم من صفات الأنبياء و الأولياء عطاءٌ من الله كما
اتَّضَحَ مما قدمناه آنفاً . كذلك بنو آدم يتمتعون بصفاتٍ وفضائل مختلفة ؛ فهذا جميلٌ
، وذلك عبقريٌّ ، وهذا قوِيٌّ ، وذلك ذكي .
ومثل
العباد وخالقهم كمثل التلاميذ وأستاذهم الذي ضَرَبَ القِدْحَ المعلَّىٰ في
مختلف العلوم والفنون ، فجاء إليه التلاميذ ، وأخذ عنه كلُّ واحدٍ منهم فنًّا
وتخرَّج عليه فيه ؛ فأعمال كلِّ تلميذٍ ومهاراته تَدُلُّ على أنَّ أيَّ فنٍ أخذ هو
عن أستاذه ، فإن كان نابغًا في العلوم النقلية عُلِمَ أنَّه أخذ عنه العلوم
النقلية وتخرَّج عليه فيها، وإن كان نابغًا في العلوم العقلية عُلِمَ أنه أخذ عنه
العلوم العقلية وتخرَّج عليه فيها ، وإن كان طبيبًا يداوي المرضى عُلِمَ أنّه أخذ عنه
الطِّبَّ وتخرَّج عليه فيه ، وإن كان شاعرًا عُلِمَ أنه تَعَلَّم منه الشعر وقرضه
، فأحوال التلاميذ تدل على أنّ أيَّ فن أخذوه منه وتخرَّجوا عليه فيه .
ولما
كان بنو آدم لاسيما الأنبياء منهم يتمتعون بصفات وفضائل ، وهي عطاء من الله وفيض
منه ، فبأعمال الأنبياء وأثارهم عُلِمَ أنَّ هذا النبي اِستفاد من أي صفة من صفات
الله ، وهذه الصفة هي المنبع الأصيل لهذا النبي بجانب تمتُّعه بالصفات الأخرى في
قليل أو كثير .
محمد ﷺ يستفيد من صفة علم الله تعالى :
قد
عُلِمَ – مما يَدُلُّ عليه معجزات الأنبياء – أنَّ سيدنا موسى عليه السلام كان
يستفيد من صفةٍ ، وأنَّ سيدنا عيسى عليه السلام كان يستفيد من صفةٍ أخرى : فسيدنا
عيسى عليه السلام كان يستفيد من صفة الإحياء لما يدل عليه ما أُوْتِيَ من معجزة
إحياء الموتى وشفاء المرضى ، وسيدنا موسى عليه السلام كان يستفيد من صفة التغيير
والتبديل لما يدل عليه ما أُوْتِيَ من معجزة قلب العصا ثعبانًا ، وسيدنا محمد ﷺ كان يستفيد من صفة العلم لما يَدُلُّ عليه ما أوتي من معجزة القرآن
وإعجازه العلمي.
صفة العلم أفضل الصفات
:
يعرفُ النَّاس جميعًا أنَّ العلم صفة تحتاج
جميع الصفات إليها في عملها ، والعلم لا يحتاج في عمله إلى أي صفة ، ومن منّا
لايعرف أنَّ القدرة وغيرهامن الصفات ، لا تعمل بدون العلم والإدراك؛ فنحن نريد
تناول الطعام فنتناول ، فنعلم أولاً أنه طعام لاحجر ، ونريد شرب الماء فنشرب ،
فنعلم أولاً أنه ماء لاخمر، فعِلْمُ الطعامِ طعامًا ، والماءِ ماءً لايتوقف على
القدرة ، فإذا مرَّ بنا طعام أو ماء نعلم أنه طعام أو ماء دونما إرادة واختيار .
فالعلم
لايحتاج في ارتباطه بمعلوماته إلى أيّ صفة ، وأما الصفات الأخرى فهي تحتاج في
ارتباطها بموصوفاتها إلى العلم ، فأفضل الصفات المتعلقة بالغير وأعلاها العلم ،
وليس فوقه صفة ، بل إليه تنتهي الصفات المتعلقة بالغير.
النبيُّ
الذي يستفيد من صفة العلم هو سيد الأنبياء وخاتمهم :
فالنبيُّ
الذي يستفيد من صفة العلم كان أفضل الأنبياء مرتبةً وكان سيدهم وأشرفهم ، وكانوا
تابعين له و محتاجين إليه ، وتنتهي إليه مراتب الكمال ، فكان خاتمهم .
دليل خاتميّة محمد ﷺ :
ذلك
أنَّ الأنبياء نُوَّابُ الله وخلفاءه كالحكَّام والوزراء ؛ لأنّهم يُبَلِّغون
أوامر الله وأحكامه ، فكانوا حُكّامًا ، فكما أنَّ منصب رئاسة الوزارة هو أعلى
المناصب ، والمناصب الأخرىٰ أسفل منه، فرئيس الوزراء ينسخ أوامر من تحته من
الحكام ، ومن تحته من الحكام لاينسخون أوامره ؛ وذلك لأنَّ المناصب كلّها تنتهي
إلى منصبه فكذلك منصب خاتمية النبوة ليس فوقه منصبٌ والمناصب الأخرى تحته ، فخاتم
النبيّين ينسخ أوامر من تحته من الأنبياء ، وأما هم فلا ينسخون أوامره .
محمد ﷺ خاتم النبيين وآخرهم زمانًا :
على
هذا فوجب أن يكون محمد ﷺ خاتم
النبيين وآخرهم زمانًا ؛ لأنَّ دور الحاكم الأعلى ياتي بعد جميع الحكام ، وأمره
آخر الأوامر، فالقضيةُ ترفع إلى المحكمة العليا أخيرًا . ومن هنا لم يَدَّعِ أحد
من الأنبياء ختم النبوة ، وإنما ادعى محمد ﷺ ختم النبوة ، كما نُصّ على هذا الموضوع في الكتاب والسنة .
لو
ادعى أحد سواه ختم النبوة لادعى سيدنا عيسى عليه السلام ، إلا أنّه لم يدَّع ختم
النبوة ، وإنما بَشَّرَ : >ياتي من بعدي سيدُ العالم< مما عُلِمَ أنّه لم يدّع لنفسه الخاتمية ، بل بَشّر بمقدم سيد العالم ،
فكان خاتم الحكّام وآخرهم. وتكون أوامره آخر الأوامر .
* * *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الثاني 1428هـ =
مايو 2007م ، العـدد : 4 ، السنـة : 31.